Oleh : Muhammad Bakhit
دعني ووصفِيَ آياتٍ لهُ ظَهَرَتْ *** ظهور نارِ القرى ليلاً على علمِ
أما وقد وقفت على كثير من معجزاته الباهرة فدعني أصِفُ لك معجزة من معجزاته التي ظهرت ظهور نارٍ عظيمة على قمة جبل عالٍ. فعمَّ الكون نورها فانتفع بها من آمن بها ومن جحدها. فهي المُعجزة الخالدة التي بقيت تفقأ عين الجاحدين وتفضح المتفلسفين . ألا وهي القرءان
المبين.
فالدُّرُّ يزداد حُسناً وهو منتظمٌ *** وليس يَنقُصُ قدراً غير مُنتظمِ
فإنَّ اجتماع هذه الآيات يزيد في حسنها وإن كان في كل واحدة بمفردها من الحُسن ما لا يمكن وصفه ولا تُقدَّر قيمته كالدُّرِّ يزداد حسناً إذا انتظم عقداً ويظلُّ حافظاً قيمته وهو غير منظوم.
فما تطاول آمال المديح إلى *** ما فيه من كرمِ الأخلاقِ والشِّيَمِ
إذ ليس في مقدور أحد الوصول إلى حقيقة ما فيه من الأخلاق الكريمة والصفات الجميلة وكيف يُمكن أن يصِل إلى حقيقته مخلوقٌ بعد أن مدحه الله في كتابه ووصفه بآياته. فقال تعالى: {لقد جاءكم رسولٌ من أنفسِكم عزيزٌ عليه ما عَنِتُّم حريصٌ عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم}. وقال: {وإنك لعلى خلق عظيم}، وقال: {إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيرا}. وقال في ذم من ذمه: {إنا أعطيناك الكوثر، فصل لربك وانحر، إن شانئك هو الأبتر}. وقال: {تبت يدا أبي لهب وتب * ما أغنى عنه ماله وما كسب * سيصلى ناراً ذات لهب * وامرأته حمالة الحطب * في جيدها حبل من مسد}. وقال يهدىء روعه عندما توقف الوحي من النزول لفترة إليه: {والضحى * والليل إذا سجى * ما ودعك ربك وما قلى * وللآخرة خير لك من الأولى * ولسوف يُعطيك ربكَ فترضى}.. إلى غير ذلك الكثير الكثير.
دامت لدينا فقامت كُلَّ مُعجِزَةٍ *** من النَّبيين إذ جاءت ولَمْ تَدُمِ
فهي الآيات الحقَّة القديمة المعنى التي أُنزلت على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فصارت جديدة اللفظ. صالحة لكلِّ زمان ومكان لا فرق بين قطر وقطر ونوع من بني آدم ونوع وكيف لا وهي من عند من خلق الجميع ونوَّع معاشهم وفاوت بين عقولهم وعلم مستقبل حياتهم حتى تقوم الساعة وتنتهي الدنيا.
لَمْ تَقْتَرِن بزمانٍ وهيَ تَخْبِرُنا *** عنِ المَعادِ وعَنْ عادٍ وعَنْ إرَمِ
لم تظهر في غير زمن النبي مع أنها أخبرت عن الآتي المعاد وعن الماضي كقصة عاد وإرم ذات العماد. حتى لا يتهمها متهم في الآتي لصدقها في الماضي الذي خفي أمره إلا على قليل من أهل الكتاب. وقد جاءت هي على لسان أُمي لا يقرأ المكتوب ولا يكتب بعيد عن العلماء والرهبان فسبحان من أنطق كل لسان.
آيات حقٍّ من الرحمنِ مُحدَثَةٌ *** قديمةٌ صِفةُ المَوصوفِ بِالقِدَمِ
وقد فاقت معجزة القرءان كل معجزة جاء بها النبيون أممهم لأن معجزاتهم انتهت بموتهم أما هذه فدائمة تكر السنون وتمر العصور وتتبدل الدول. وهي هي لم تتغير ولم تتبدل. محافظة على كأنها الأول من قوة الحجة وإصابة المحجة.... .{إنّا نحنُ نزَّلنا الذكر
وإنّا لهُ لحافظون}.
مُحكماتٌ فما تُبْقِيَن مِن شُبَهٍ *** لِذي شِقاقٍ وما تبْغينَ من حِكَمِ
آيات محكمة تنفي كل شبهة عن شديد الخصومة قوي الجدل. المتعصب لغير ما أمرت به فهي غير محتاجة إلى قاض يحكم بينها وبين من يجادلها. لأنها الحجة الواضحة والحكم العدل البعيد عن الهوى المنزه عن الغرض.
ما حورِبَتْ قَطُّ إلاّ عادَ من حَربٍ *** أعدى الأعادي إليها مُلْقِيَ السَّلَمِ
ما اعتدى عليها عدو من أشد أعدائها إلا عاد بعد التعب مغلوباً معترفاً بتفوقها على كل حجة وغلبتها لكل مجادل واعترف بأنها منزهة عن كلام البشر وبلاغته.
رَدَّتْ بلاغتُها دعوى مُعارِضِها *** رَدَّ الغيور يَدَ الجاني عَنِ الحُرَمِ
وما عارضها معارض من المفترين الذين كذبوا فادعوا أنها من كلام البشر وادعوا قدرتهم على الإتيان بمثلها. إلا وردته بلاغتها مقهوراً مقرأً بالعجز كما يرد البطل المقدام يد المعتدي التي امتدت إلى ما في حمايته من الحرم والمال.
لها معانٍ كموجِ البحر في مَدَدٍ *** وفوْقَ جوهَرِهِ في الحُسْنِ والقِيَمِ
أما معانيها فكموج البحر لا تعد ولا تحصى ولا تستقصى. وكيف لا وقد مر على ظهورها زهاء ألف وأربعمائة عام وجبابرة العقول من العلماء يعرضون لها فيشرحونها. كل على قدر ما وهبه
الله من فهم. والى الآن لم يصل أحد إلى ساحل بحرها. فكيف يقدر بشر على إخراج
أسرارها. لا سيما أن بحرها عظيم الغور كبير الخطر لا يصل إليه إلا من اصطفاه الله
لفيض نور إلهامه من النبيين والصديقين والصالحين. كل على قدر منزلته عند ربه.
فما تُعدُّ ولا تُحصى عجائبها *** ولا تُسام على الإكثار بالسأمِ
ولكل باحث عليم في فهم معانيها طرق تظهر فيها عجائب. من حسن في التركيب وجمال في التشبيه. وإبداع في الاستعارة.
وإصابة في الحكم. مما دل على أن عجائبها لا تحصى. وهي مع كثرة معانيها وتنوع مرامي
بلاغتها. لا يسأم متتبعها وتاليها، لحلاوة مذاقها وعذوبة ألفاظها وغرابة ما فيها من
جمال يتجلى للمتأمل البصير. وإتقان يحير كل فطن خبير.
قَرَّت بها عينُ قاريها فقلت لهُ *** لقد ظفرتَ بحبل الله فاعتصم
قرت بها عين القارىء المتدبر الحريص على فهم ما حوت من أمر ونهي وترغيب وترهيب ووعد ووعيد فقلت له لقد ظفرت بباب النجاة فاعمل بما فيها تعتصم من كل ما تخشى وتخاف. فهي مفتاح السعادة ودليل الخيرات.
إن تتلُها خيفةً من حر نار لظى *** أطفأْتَ حر لظى منْ وردِها الشّبِمِ
لأنك إذا تلوتها خوفاً من النار وُقيت شر النار لأنها مخلوق الهي تتلاشى أمامها كل حرارة مهما عظمت قوتها واشتد خطرها. وان تلوتها طلبا للثواب ورضاء الواحد الوهاب. بلغت المراد وما تعدت السداد.
كأنها الحوض تبيَضُّ الوجوه به *** من العصاة وقد جاؤوهُ كالحُمَمِ
ولا غرابة في ذلك. فهي كالحوض الموعود به في الآخرة. إذ يخرج العصاة من النار محترقين كالفحم فيغتسلون به فتبيض وجوههم وتعود أجسامهم إلى حالتها الطبيعية، فهكذا هي. يتذكر المتدبر أثناء تلاوتها زلاّته فيندم ويقبل على الله تائباً نادماً على ما مضى. يطلب العفو والرضا. وهي التوبة الحقة الصادقة التي تزيل سواد القلوب وتغسل الذنوب عمن يتوب.
وكالصراط وكالميزان مُعْدَلَةً
*** فالقِسطُ من غيرها في الناس لَمْ يَقُمِ
وكالصراط وكالميزان تميز الخبيث من الطيب والتام من الناقص تقول لمن رجحت كفة خطاياه ويل لك على ما فرّط في حقوق الله فيرجع عن طريق الخسران من كتبت له السعادة. وتقول لمن اتبع الأوامر واجتنب النواهي. طوبى لك فهي جزاء المتقين.
لا تعجَبَنْ لحسودٍ راحَ يُنكرها *** تجاهُلاً وَهْوَ عينُ الحاذِقِ الفَهِمِ
فلا تعجب بعد كل هذا من تجاهل حاسد لها وإنكاره إياها وهو يعلم ما تضمنته من حِكَم غَوالٍ وهدي بيّن فإن هذا من لوازم الحسد وهو لا يحط من قدرها لأنه لا يُحسد إلا من تمّت نعمته وبلغ العلى في كماله.
قد تُنكِرُ العَيْنُ ضوْءَ الشمسِ مِنْ رَمَدٍ *** ويُنكِرُ الفَمُ طَعْمَ الماءِ من سَقَم
نعم لا تعجب، فالعين قد تُنكر ضوء الشمس وهي طالعة لألم ألمّ بها لا تقوى معه على رؤية النور. والفم ينكر طعم الماء العذب الصافي لمرض حل به. ولا يحط من قدر الشمس والماء هذا الإنكار الذي ينكره الذوق والعيان. فلا غرابة في إنكار معجزة القرءان إذاً ممن ختم الله على قلبه وتسيطر الشيطان على حواسه.
في إسرائه ومعراجه صلى الله عليه وسلم
يا خير من يمَّمَ العافونَ ساحتَهُ *** سعياً وفوق مُتونِ الأينُقِ الرُّسُمِ
يا خير من قصد المحتاجون حرمه مشاة وركبانا طلبا لما عجزوا عن الوصول إليه من غيرك.
ومَنْ هوَ الآيَةُ الكُبرى لِمُعتَبِر ٍ*** ومن هو النِّعْمَة ُ العُظمى لِمُغتَنم
ويا من هو المعجزة العظيمة للمتعظ الذي يُحكّم العقل فيما جاء على يده من معجزات مشاهدات باهرات. ويا من هو النعمة العظيمة لمن يريد اغتنام القربات المنجيات.
سَرَيْت من حرمٍ ليلاً إلى حَرَمٍ *** كما سرى البَدْرُ في داجٍ مِنَ الظُّلَمِ
لقد سرت من الحرم المكي إلى بيت المقدس ثم عدت في بعض ليلة. كما سرى البدر في الليلة الظلماء من المشرق إلى المغرب.
وبِتَّ ترقى إلى أنْ نِلْتَ مَنْزِلَةً *** من قابِ قوسَيْنِ لَمْ تُدرَكْ وَلَمْ تُرَمِ
وفي هذا الزمن اليسير عرجت إلى السموات العلا حتى صرت قاب قوسين أو أدنى كما أخبر الله تبارك وتعالى بذلك في القرءان الكريم، وقد قالت السيدة عائشة رضي الله عنها أنا أول من سأل النبي عليه الصلاة والسلام عن هذه الآية: {ثُمَّ دنا فتدلّى فكان قاب قوسين أو أدنى}. فقال لي: هو جبريل يا عائشة.
وَقَدَّمَت ْكَ جميعُ
الأنبياءِ بِها *** والرُّسْلِ تقديمَ
مخدومٍ على خَدَمِ
وقدمتك جميع الأنبياء والرسل حيث صليت بهم إماما في المسجد الأقصى فكان تقديمك تقديم السيد وهو أكبر دليل على علو مقامك عن مقامات الأنبياء والمرسلين أجمعين.
وأنتَ تَخْترِقُ السَّبعَ الطِّباقَ بِهم *** في موكِبٍ كُنْتَ فيهِ صاحبَ العَلَمِ
حيث صعدت تخترق السموات السبع بهم في موكب عظيم كنت أنت فيه القائد الأعظم صاحب العلم الأكبر.
حتى إذا لم تدَعْ شأواً لِمُستبقٍ *** من الدنوِّ ولا مَرقىً لِمُستنِمِ
حتى إذا وصلت إلى مقام لا ينبغي لأحد سواك اعتلاؤه تأخر الجميع وتقدمت حتى دنوت مقام الشرف.
خفضتَ كلَّ مقامٍ بالإضافةِ إذ *** نوديتَ بالرفعِ مثل المُفردِ العَلَمِ
فكان كل مقام من مقامات الأنبياء والمرسلين والملائكة المقربين بالنسبة إلى مقامك أصغر وإذ سمعت صرير الأقلام. نوديت من قبل العلي القدير بيا محمد.
كيما تفوزَ بوصلٍ أيِّ مُستتِرٍ *** عن العيونِ وسِرٍ أيِّ مُكتتمِ
نوديت لتتمتع بحب الله المنزه عن الكيف. ولتُمنح من لدنه تعالى عظيمات الأسرار الإلهية.
فحُزتَ كلَّ فَخارٍ غير مُشترَكٍ *** وجُزتَ كل مقامٍ غَيْرِ مزدَحَمِ
فحزت بهذا التفضل الإلهي فخراً لا يشاركك فيه أحد وتعديت كل مقام حتى صرت فردا لا يزاحمك مزاحم.
وجل مقدارُ ما وُليتَ من رُتبٍ *** وعزَّ إدراك ما أُتيتَ من نِعَمِ
فما أعظم ما أولاك الله من المراتب العلية. وما أعز على غيرك إدراك بعض ما أولاك الله من نعم سنية.
بُشرى لنا معشر الإسلام إنّ لنا *** من العناية ركناً غير مُنهَدِمِ
فبشرى لنا بك يا أشرف الخلق فإن لنا بك من عناية الله ورحمته وغفرانه ركنا قوياً لا تزعزعه عواصف المعاصي. ولا تؤثر فيه زلازل الخطايا.
لمّا دعا اللهُ داعينا لِطاعته *** بأكرمِ الرُّسْلِ كُنّا أكرم الأُمَمِ
ولما دعا الله رسولنا الذي دعانا إلى التوحيد وهدانا من الظلمات إلى النور بأكرم الرسل. كنا نحن أكرم الأُمم. لأن التابع يشرف بشرف المتبوع. وإذا كان الرجل يفخر على أقرانه بتبعيته لدولة قوية من الدول الأجنبية فكيف لا يفخر من انتسب إلى الملة المحمدية التي هي حزب الله. وحزب الله هم المفلحون. فالحمد لله الذي جعلنا من هذه الأمّة التي هي خير أمّة أُخرِجَت للناس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر. حمداً يُكافىء هذه النعمة العظيمة والمنحة الجليلة.
في جهاد النّبي صلى الله عليه وسلم
راعَتْ قُلوبَ العِدا أنباءُ بِعْثَتهِ *** كنَبأَةٍ أجفَلَتْ غُفْلاً من الغَنَمِ
عندما أراد الله إيقاظ العرب بل العالم أجمع من سبات جهالة عمياء وشر مستطير حيث السلب والنهب وانتهاك الحرمات وأكل أموال الناس بالباطل الإكراه على البغاء. أظهر الذات المحمدية في مظهرها الحقيقي مظهر الرسول القوي الموفد من قبل ملك الملوك ليدعو إلى الله فدعا الناس إلى التوحيد فهالتهم دعوته التي ستنقلهم من عبادة الأوثان إلى عبادة الواحد الديّان المنزَّه عن مشابهة العيان الموجود أزلاً وأبداً بِلا كيفٍ ولا مكان. فذعروا لهذه الدعوة كما تذعر الغنم الرابضة حين تفاجئها زأرة أسد على غرة فتفترق حيرى لا تدري إلى أي جهة تتجه ولا على أي طريق تسير.
ما زال يلقاهُمُ في كلِّ مُعتَرَكٍ *** حتّى حَكَوا بِالقَنا لحماً على وَضَمِ
كبر عليهم دعوته إلى الله فناصبوه العداء وأبو إجابته وآذوه إيذاء شديدا وهو يقول اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون. فلما طال الأمد ملازمون للعناد أمره الله بقتالهم فحذرهم الحرب فلم يزدادوا إلا استهزاء فحمل عليهم بعدده القليل في معارك كثيرة فنصره الله على جيوشهم المتكاثفة حتى تخطفهم أسنة رماح أصحابه فاشتبهت قطع لحومهم المقطعة بأطراف الرماح قطع اللحم الموضوعة على خشبة الجزار.
وَدّوا الفَرار فكادوا يغبِطون به *** أشلاء شالَتْ مَعَ العِقْبانِ والرَّخَم
فلما رأوا الغلبة عليهم في جميع المعارك ورأوا رءوسهم تتطاير ودوا الفرار حتى صاروا من شغفهم به يغبطون قطع اللحم التي ارتفعت مع العقبان والرخم من أجسام أنصارهم. ولكن أين المفر. والخوف قد سد عليهم كل طريق والجبن عمي عليهم كل مسلك والله من ورائهم محيط.
تمضي الليالي ولا يدرون عِدَّتَها *** ما لم تكُن من ليالي الأشهرِ الحُرُمِ
شغلهم الرسول بالحرب حتى كانت تمر الليالي لا يعرفون كم هي ولا في أي زمن هم اللهم إلا أيام الأشهر الحُرُم التي تضع الحرب فيها أوزارها. وهي رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم.
كأنما الدّينُ ضيفٌ حَلَّ ساحتَهُم *** بِكُلِّ قَرْم إلى لحمِ العِدا قَرِمِ
كأنما دين الإسلام حين نزل بهم ضيف. أتباعه أبطال أصحاء مشتهون أكل لحوم أعدائهم.
يَجُرُّ بَحْرَ خميسٍ فوقَ سابِحةٍ *** يرمي بموجٍ من الأبطالِ مُلْتَطَمِ
يجر وراءه جيشاً عرمرماً يحكي لكثرة عدده بحراً متلاطم الأمواج يخشى منظره ويخاف مخبره.
من كل منتدب لله مُحتسِب *** يسطو بمستأصلٍ للكفر مُصْطَلَمِ
فيه كل مجاهد في سبيل الله محتسب أجره من الله لا يرجو سوى تأييد كلمة الله يصول على الكفار بسيف يقتلع الكفر من جذوره. لا يفل له حد ولا ترد له ضربة.
حتى غدت مِلةُ الإسلام وهي بهمْ *** من بعد غربتها موصولة الرحم
فلم يزل هؤلاء الصناديد يدعون إلى الله ويقاتلون من يأبى إجابة الدعوة حتى صارت ملة الإسلام بهمتهم وقوة إيمانهم وإقدامهم على الموت صاحبة الحول والطول إن شرقت أو غربت وجدت لها أقارب وأنصاراً. بعد أن كانت غريبة في وطنها لا ناصر لها. فسبحان من بيده ملكوت كل شيء. وهو على كل شيء قدير.
مكفولة أبداً منهم بخير أبٍ *** وخير بعلٍ فلَمْ تيْتَمْ ولم تَئِم
وليس في ذلك غرابة وقد كفلها منهم من هو منها بمنزلة الأب كالرسول صلى الله عليه وسلم ومن هو منها بمنزلة البعل كالمهاجرين والأنصار رضوان الله عليهم فهي لم تيتم ولم نفقد البعل
لأن الله موجدها ومسخر من يحفظها.
هم الجبال فسَلْ عنهم مُصادمَهُم *** ماذا رأى منهم في كل مُصطدَمِ
وأن أنصارها كالجبال قوة وثباتاً وإذا شئت أن تعرفهم حق معرفتهم لتلم الإلمام التام بمن باعوا أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة وكان على يدهم النصر والفتح. فاستفهم عنهم ممن اشتبك معهم في معامع الوقائع يخبرك أنهم الجبال الرواسي الذين ثبتوا عند اللقاء فلم تزعجهم الكثرة. ولا أخافتهم العدة. ولا زحزحهم عن مواقفهم تتابع الطعنات.
وسَلْ حنيناً وسَلَْ بدرا وسَل أُحُداً *** فصول حتفٍ لهُمْ أدهى من الوَخَمِ
واستفسر عن المواضع التي دارت رحى الحرب فيها بينهم وبين أعدائهم كحنين وبدر وأُحُد فقد رأوا فيها أنواعا من الموت أشد عليهم من الوباء الداهم إذ تركهم المسلمون حصيدا بعد أن أذاقوهم عذابا أليما.
المُصدري البيض حُمراً بعدما وردتْ *** من العِدا كلَّ مُسوَدٍّ من اللّمَمِ
فهم قوم لا تخفى على أحد صفاتهم لأنهم ما رجعوا بسيوفهم قط غير مخضبة بالدماء. بعد أن وردت مورداً شهياً من رءوس الأعداء.
والكاتبين بِسُمْرِ الخَطِّ ما تَرَكَتْ *** أقلامُهمْ حَرفَ جِسمٍ غيرَ مُنْعَجِمِ
وقد جرحوا برماحهم من أجسام الكفار ما لم يجرح من قبل بقواطع السيوف لمنعة صاحبه وقوته فكتبوا بما أحدثوا بها من جراح رايات النصر التي لم يتمكنوا من كتابتها في الصحف بالأقلام لأميتهم أو لمشغوليتهم بالحرب.
شاكي السلاحِ لهمْ سيما تُمَيِّزُه ُمْ *** والوردُ يمتازُ بالسيما من السَّلَمِ
ولأُقرب عليك الأمر بوصف أخص. فهم قوم على الدوام لابسون سلاحهم لأنهم إما في الحرب أو مستعدون لحرب فهم لا يخشون الموت. وعلامتهم التي تميزهم من الناس. هي هيبة البطولة ونور اليقين وصاحبة التقوى. فهم كالورد بالنسبة للناس والناس بالنسبة لهم كالسلم. والورد والسلم نوعان من الشجر لا يشتبهان.
تُهدي إليك رياحُ النصرِ نَشْرَهُمُ *** فتحسبُ الزهرَ في الأكمامِ كُلَّ كَمِي
تهدي إليك على الدوام رائحتهم الزكية أنباء النصر. ولهذا تخال الزهور في أكمامها أبطالاً لاشتمالها على رائحة زكية تشبه رائحة تحيات نصرهم المتواترة.
كأنهم في ظهور الخيل نبتُ رُباً *** من شدّة الحَزْمِ لا من شدّة الحُزُمِ
فهم فوق ظهور الخيل ثابتون. لا تزعزعهم هجمات الأعداء ولا كثرة الصيحات كنبت الأرض العالية الذي لا تؤثر فيه الرياح الهوجاء. ولا السيول العمياء. وذلك من شدة الثبات ورباطة الجأش لا من قوة شد الحبال كما يفعل الجبان الخوار.
طارت قلوب العِدا من بأسهم فَرَقاً *** فما تُفَرقُ بينَ البَهْمِ والبُهُمِ
جن الأعداء من شدتهم وانتصارهم عليهم مع قلتهم فأعماهم الفزع والرعب. فهم لا يفرقون عند اللقاء بين الرجال والدواب وكيف لا يخذل من يخبط خبط عشواء . ومن يُضْلِل الله فما له هاد.
ومَنْ تَكُنْ برسول اللهِ نُصرَتُهُ *** إن تَلْقَهُ الأُسدُ في آجامها تَجِمِ
وكيف لا يكون الثبات والإقدام من شيم هؤلاء الأبطال. ولا يكون النصر حليفهم. والجبن والخذلان من مستلزمات أعدائهم؟ وناصرهم رسول الله ومن تكون برسول الله نصرته إذا داهم الأسد في مأواه حيث تكون أشد دفاعاً فرت منه هرباً وما وجدت إلى الثبات سبيلا.
ولن ترى من وليٍّ غير منتصرٍ *** بهِ ولا من عدوٍّ غيْرِ مُنْقَصِمِ
وكيف لا ينصرون ويهْزِمونَ من
جرؤ عليهم من الأعداء. وقد باعوا أنفسهم وأموالهم لله فاشتراها منهم بأنَّ لهم
الجنة وتولاهم بحمايته. فهم أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون وكيف ترى وليا
من أولياء الله غير منتصر بحبه لحبيبه الأعظم صلى الله عليه وسلم؟! وكيف ترى عدوا
من أعداء الله غير مخذول بإبغاضه لرسوله الصادق الأمين؟!
أحلَّ أُمَّته في حرز ملَّتِهِ *** كالليث حلَّ مع الأشبالِ في أجَمِ
هذا الرسول الذي أحل أُمته في حصن الدين المنيع فهم آمنون به من الشيطان وجنوده والكفر ونصرائه. كما يتحصن الليث وأشباله في مأواه من كل طارىء ولن يجرؤ على الدنو من الأسد في عرينه احد.
كم جَدَّلَتْ كلمات الله مِنْ جَدِلٍ *** فيه وكم خصَمَ البرهانُ من خَصِمِ
وماذا أعدد من معجزات لا تحصى وكم أرغمت كلمات الله وآياته فيه أنف كل مفوه كثير الجدل. وكم قهر البرهان خصماً لدوداً من أشد معارضيه.
كفاك بالعِلْمِ في الأُمّيِّ معجزةً *** في الجاهليةِ والتّأديبِ في اليُتُمِ
كل ما كان من معجزاتك يا رسول الله لو لم يكن لكفاك دليلاً على صدق رسالتك علمك مع أُميتك وتأديبك في يتمك. ألست أنت الذي جئتنا من عند الله بالقرآن الذي أعجز البلغاء وأفحم الخطباء. فعجزوا عن مجاراته والوصول إلى محاكاته في أصغر سورة منه. اللهم بلى.
في التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم
خَدَمتُهُ بِمَديحٍ أستقيلُ بِهِ *** ذنوبَ عُمْرٍ مَضَي في الشِّعْرِ والخِدَمِ
خدمته؟ لا، بل خدمت نفسي بمدحه صلى الله عليه وسلم رجاء أن يقيلني الله من ذنوب كثيرة جنيتها طول عمر قضيته في الشعر بمدح من لا يستحق المدح وذم من لو تركت ذمه لكان أولى وأحق. وفي خدمة من لا ينفع وقد يضر. وكل عمل لغير الله باطل.
إذ قَلَّداني ما تُخشى عواقِبُهُ *** كأني بِهِمَا هَدْيٌ من النَّعَمِ
إذ قلدني الشعر والخدمة بقلادة من الأوزار تخشى عاقبتها فكنت كهدي النعم الذي يساق إلى الذبح فداء لدى البيت الحرام.
أطعت غَيَّ الصِّبا في الحالتين وما *** حصلتُ إلاّ على الآثامِ والنَّدَمِ
أطعت هوى شبابي فقلت الشعر مادحا وذاما وخدمت هذا وذاك رجاء منفعة دنيوية. فما جنيت واأسفاه سوى الذنوب التي عليها الآن أندم. فما كان أغاني عما يوجب تأنيب الضمير والخشية ممن يحاسب على النقير والقطمير.
فيا خسارة نفسٍ في تجارتها *** لم تَشْترِ الدّينَ بالدنيا ولَمْ تَسُمِ
فيا خسارة نفس في هذه التجارة التي لم تشتر فيها الدين بالدنيا بل عكست. ولم تطلب زيادة الثمن إذ ضحت هذه التضحية العظيمة. فباعت دينها بدنياها. ولو فعلت هذا لكان لها في كثرة الثمن شبه عذر في إقدامها على هذه الصفقة الخاسرة.
ومن يَبِعْ آجِلاً منه بعاجلِهِ *** يَبِنْ لهُ الغِبْنُ في بيعٍ وفي سَلَمِ
ومن باع الدار الباقية التي لا فناء لها بدار فانية زائلة ظهر له بعد تمام البيع الخسارة في البيع والتسليم.
إنْ آتِ ذنباً فما عهدي بمُنْتقِضٍ *** من النبيّ ولا حبلى بمنصرمِ
وأنا وإن ارتكبت الذنوب وشملتني العيوب فما نقضت والحمد لله لرسول الله عهداً. ولا قطعت بيني وبينه صلة وإن لكل جواد كبوة وكبوتي هذه إن شاء الله بسببه مغفورة.
فإنَّ لي ذِمَّةً منهُ بِتسمِيَتي *** مُحمداً وَهْوَ أوفى الخَلْقِ بالذِمَمِ
فإن بيني وبينه عهداً وثيقاً وهو تسميتي باسمه الشريف. فلا خوف إن شاء الله عَلَيَّ من ذنوب أثقلت كاهلي وأحبطت عملي فإنني ناجٍ بسبب هذا العهد فالرسول الأعظم أوفى الخلق بالعهود فلا يترك من لجأ إلى ساحة كرمه.
إن لم يكن في معادي آخذاً بيدي *** فضلاً وإلاّ فَقُلْ يا زلَّةَ القَدَمِ
إن لم يأخذ بيدي رسولُ الله يوم يقول الكافر (يا ليتني كنت ترابا) فيا زلة القدم ويا سوء المآل لأن الاعتماد على الطاعة في طلب النجاة من سوء التدبير وقلة الإدراك.
حاشاهُ أن يُحرمَ الرّاجي مكارمَهُ *** أو يَرجِعَ الجارُ مِنْهُ غيرَ مُحتَرَمِ
ومنذُ ألزَمْتُ أفكاري مدائِحهُ *** وجدتُهُ لخلاصي خيرَ مُلتَزمِ
وحاش لله أن يستجير به مستجير أو يرجوه راج فلا يأمن المستجير ولا ينال الراجي مبتغاه فبشراك يا نفسي. لأنه لو لم يقبل رجائي ويُجيرني من عذاب شديد لعلي كنت لم أقف لمدحه بهذا الخصوص، فإن توفيقي لمدحه صلى الله عليه وسلم وتفريج كل كرب بالتجائي إليه دليلان واضحان دلاّني على أنَّ خاتم الأنبياء قد التزم خلاصي وتعهد بنجاتي إن شاء الله رب العالمين.
ولَنْ يفوتَ الغِنى مِنْهُ يداً تَرِبَتْ *** إنَّ الحيا يُنْبِتُ الأزهار في الأكمِ
ولا يفوت حنانه وعطفه نفس تعلقت به لأنه صلى الله عليه وسلم أعظم من المطر نفعاً، والمطر يروي الأرض المقفرة التي لا ينتفع بها كثيرا فينبت فيها الزهر وهي غير أهل له لخلوها ممن ينتفع به.
ولمْ أُرِد زهرةَ الدنيا التي اقتطَفَتْ *** يدا زُهَيرٍ بما أثْنى على هَرِمِ
وأنا مع إكثاري من مدحه صلى الله عليه وسلم لم أرد بهذا المدح منفعة دنيوية تنقضي بانقضاء الأجل التي أرادها زهير من هرم بن سنان. وإنما أردت رضاء الله ورضاه والدار الآخرة التي طرحتها وراء ظهري عمراً مديداً وزمناً طويلاً.
في المناجاة وعرض الحاجات
يا أكرمَ الخَلْقِ مالي من ألوذُ بهِ سواكَ عندَ حُلولِ الحادث الْعَمِمِ
فيا أكرم الخلق ها أنا مقر بذنبي معترف بخطئي نادم على تفريطي. وقد يكون وليس لي باب إلى النجاة سوى باب كرمك فخذ بيدي يا رسول الله عند عرضي على من لا تخفى عليه خافية.
وَلَنْ يضيقَ رسول الله جاهُكَ بي إذا الكريمُ تجلَّى باسم مُنْتَقِمِ
فلن يضيق واسع جاهك بي يا رسول الله إذا تجلى ملك الملوك يوم القيامة على عباده باسم المنتقم.
فإنّ من جودك الدنيا وضرّتَها ومن علومك علمَ اللوحِ والقلمِ
وكيف يضيق جاهك بي، ومن جودك الدنيا والآخرة بما حوتا، ومما علمك الله بعض ما جرى به القلم على اللوح وها أنا أُعلمك بحالتي وحاجتي وأنتم يا سيدي يا رسول الله تأخذون بيد من لجأ إليكم.
يا نفس لا تَقْنَطي من زَلَّةٍ عَظُمَتْ إنَّ الكبائر في
الغُفرانِِ كاللَّمَمِ
هنا أحسَّ البوصيري رضي الله عنه بالعطف النبوي، والقبول الإلهي. فقال منشرحاً مسروراً يهتز من الفرح: يا نفس لا تقنطي من النجاة لخطاياي العظيمة ما دام الملجأ رسول الله. فإن الله يغفر الذنوب جميعاً. لا فرق عند غفرانه سبحان بين الكبائر والصغائر. وقد أحسنت به الظن وهو سبحانه عند ظن عبده به فبشرى لك يا نفس.
لعل رحمةَ ربِّي حينَ يَقْسِمُها *** تأتي على حَسَبِ العصيان في القِسَمِ
ورجائي أن الله حين يقسم رحمته بين خلقه يجعل القسمة على قدر المعاصي لا على عدد الأنفس. لأن نصيبي سيكون عظيماً أنجو به إن شاء الله من عذاب أليم لما أعلمه من خطاياي العظيمة التي لا أستطيع أن أعدّها أو أحصيها.
يا ربِّ واجعلْ رجائي غيرَ مُنْعَكِسٍ *** لديك واجعل حسابي غيرَ مُنْخَرِمِ
فاللهم اجعل هذا الرجاء غير منعكس واجعل حسابي الذي حسبته من قسمة الرحمة على قدر المعاصي غير خاطىء.
والطُفْ بعبدكَ في الدارينِ إنَّ لهُ *** صبراً متى تَدْعُهُ الأهوالُ يَنْهَزِمِ
والطف اللهم بي في الدارين لأن صبري ضعيف ينهزم متى دهمتني الأهوال فخذ يا رب بيدي إكراماً لمن لجأتُ إلى بابه واحتميت بحمى جنابه.
وأذنْ لِسُحْبِ صلاةٍ منكَ دائمةً *** على النَّبي بِمُنْهَلٍ
ومُنْسَجِم ِ
كما أسألك أن تصب من فيض فضلك رحمات دائمات كالغيث المتتابع الذي لا ينقطع على نبيك وخيرتك من خلقك.
ما رنَّحَتْ عذباتِ البانِ ريحُ صباً *** وأطربَ العيس حادي العيسِ بالنَّغَمِ
واجعلها مستمرة ما هزَّت الريح أطراف الأغصان. واطرب النوق حادي النوق بالألحان.
وآخره أن الحمد لله ربّ العالمين
وصلّى الله على سيّدنا محمّد وعلى اله وصحبه الطيبين الطاهرين
دعني ووصفِيَ آياتٍ لهُ ظَهَرَتْ *** ظهور نارِ القرى ليلاً على علمِ
أما وقد وقفت على كثير من معجزاته الباهرة فدعني أصِفُ لك معجزة من معجزاته التي ظهرت ظهور نارٍ عظيمة على قمة جبل عالٍ. فعمَّ الكون نورها فانتفع بها من آمن بها ومن جحدها. فهي المُعجزة الخالدة التي بقيت تفقأ عين الجاحدين وتفضح المتفلسفين
فالدُّرُّ يزداد حُسناً وهو منتظمٌ *** وليس يَنقُصُ قدراً غير مُنتظمِ
فإنَّ اجتماع هذه الآيات يزيد في حسنها وإن كان في كل واحدة بمفردها من الحُسن ما لا يمكن وصفه ولا تُقدَّر قيمته كالدُّرِّ يزداد حسناً إذا انتظم عقداً ويظلُّ حافظاً قيمته وهو غير منظوم.
فما تطاول آمال المديح إلى *** ما فيه من كرمِ الأخلاقِ والشِّيَمِ
إذ ليس في مقدور أحد الوصول إلى حقيقة ما فيه من الأخلاق الكريمة والصفات الجميلة وكيف يُمكن أن يصِل إلى حقيقته مخلوقٌ بعد أن مدحه الله في كتابه ووصفه بآياته. فقال تعالى: {لقد جاءكم رسولٌ من أنفسِكم عزيزٌ عليه ما عَنِتُّم حريصٌ عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم}. وقال: {وإنك لعلى خلق عظيم}، وقال: {إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيرا}. وقال في ذم من ذمه: {إنا أعطيناك الكوثر، فصل لربك وانحر، إن شانئك هو الأبتر}. وقال: {تبت يدا أبي لهب وتب * ما أغنى عنه ماله وما كسب * سيصلى ناراً ذات لهب * وامرأته حمالة الحطب * في جيدها حبل من مسد}. وقال يهدىء روعه عندما توقف الوحي من النزول لفترة إليه: {والضحى * والليل إذا سجى * ما ودعك ربك وما قلى * وللآخرة خير لك من الأولى * ولسوف يُعطيك ربكَ فترضى}.. إلى غير ذلك الكثير الكثير.
دامت لدينا فقامت كُلَّ مُعجِزَةٍ *** من النَّبيين إذ جاءت ولَمْ تَدُمِ
فهي الآيات الحقَّة القديمة المعنى التي أُنزلت على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فصارت جديدة اللفظ. صالحة لكلِّ زمان ومكان لا فرق بين قطر وقطر ونوع من بني آدم ونوع وكيف لا وهي من عند من خلق الجميع ونوَّع معاشهم وفاوت بين عقولهم وعلم مستقبل حياتهم حتى تقوم الساعة وتنتهي الدنيا.
لَمْ تَقْتَرِن بزمانٍ وهيَ تَخْبِرُنا
لم تظهر في غير زمن النبي مع أنها أخبرت عن الآتي المعاد وعن الماضي كقصة عاد وإرم ذات العماد. حتى لا يتهمها متهم في الآتي لصدقها في الماضي الذي خفي أمره إلا على قليل من أهل الكتاب. وقد جاءت هي على لسان أُمي لا يقرأ المكتوب ولا يكتب بعيد عن العلماء والرهبان فسبحان من أنطق كل لسان.
آيات حقٍّ من الرحمنِ مُحدَثَةٌ *** قديمةٌ صِفةُ المَوصوفِ بِالقِدَمِ
وقد فاقت معجزة القرءان كل معجزة جاء بها النبيون أممهم لأن معجزاتهم انتهت بموتهم أما هذه فدائمة تكر السنون وتمر العصور وتتبدل الدول. وهي هي لم تتغير ولم تتبدل. محافظة على كأنها الأول من قوة الحجة وإصابة المحجة....
مُحكماتٌ فما تُبْقِيَن مِن شُبَهٍ *** لِذي شِقاقٍ وما تبْغينَ من حِكَمِ
آيات محكمة تنفي كل شبهة عن شديد الخصومة قوي الجدل. المتعصب لغير ما أمرت به فهي غير محتاجة إلى قاض يحكم بينها وبين من يجادلها. لأنها الحجة الواضحة والحكم العدل البعيد عن الهوى المنزه عن الغرض.
ما حورِبَتْ قَطُّ إلاّ عادَ من حَربٍ *** أعدى الأعادي إليها مُلْقِيَ السَّلَمِ
ما اعتدى عليها عدو من أشد أعدائها إلا عاد بعد التعب مغلوباً معترفاً بتفوقها على كل حجة وغلبتها لكل مجادل واعترف بأنها منزهة عن كلام البشر وبلاغته.
رَدَّتْ بلاغتُها دعوى مُعارِضِها
وما عارضها معارض من المفترين الذين كذبوا فادعوا أنها من كلام البشر وادعوا قدرتهم على الإتيان بمثلها. إلا وردته بلاغتها مقهوراً مقرأً بالعجز كما يرد البطل المقدام يد المعتدي التي امتدت إلى ما في حمايته من الحرم والمال.
لها معانٍ كموجِ البحر في مَدَدٍ *** وفوْقَ جوهَرِهِ في الحُسْنِ والقِيَمِ
أما معانيها فكموج البحر لا تعد ولا تحصى ولا تستقصى. وكيف لا وقد مر على ظهورها زهاء ألف وأربعمائة عام وجبابرة العقول من العلماء يعرضون لها فيشرحونها.
فما تُعدُّ ولا تُحصى عجائبها *** ولا تُسام على الإكثار بالسأمِ
ولكل باحث عليم في فهم معانيها طرق تظهر فيها عجائب. من حسن في التركيب وجمال في التشبيه. وإبداع في الاستعارة.
قَرَّت بها عينُ قاريها فقلت لهُ *** لقد ظفرتَ بحبل الله فاعتصم
قرت بها عين القارىء المتدبر الحريص على فهم ما حوت من أمر ونهي وترغيب وترهيب ووعد ووعيد فقلت له لقد ظفرت بباب النجاة فاعمل بما فيها تعتصم من كل ما تخشى وتخاف. فهي مفتاح السعادة ودليل الخيرات.
إن تتلُها خيفةً من حر نار لظى *** أطفأْتَ حر لظى منْ وردِها الشّبِمِ
لأنك إذا تلوتها خوفاً من النار وُقيت شر النار لأنها مخلوق الهي تتلاشى أمامها كل حرارة مهما عظمت قوتها واشتد خطرها. وان تلوتها طلبا للثواب ورضاء الواحد الوهاب. بلغت المراد وما تعدت السداد.
كأنها الحوض تبيَضُّ الوجوه به *** من العصاة وقد جاؤوهُ كالحُمَمِ
ولا غرابة في ذلك. فهي كالحوض الموعود به في الآخرة. إذ يخرج العصاة من النار محترقين كالفحم فيغتسلون به فتبيض وجوههم وتعود أجسامهم إلى حالتها الطبيعية، فهكذا هي. يتذكر المتدبر أثناء تلاوتها زلاّته فيندم ويقبل على الله تائباً نادماً على ما مضى. يطلب العفو والرضا. وهي التوبة الحقة الصادقة التي تزيل سواد القلوب وتغسل الذنوب عمن يتوب.
وكالصراط وكالميزان مُعْدَلَةً
وكالصراط وكالميزان تميز الخبيث من الطيب والتام من الناقص تقول لمن رجحت كفة خطاياه ويل لك على ما فرّط في حقوق الله فيرجع عن طريق الخسران من كتبت له السعادة. وتقول لمن اتبع الأوامر واجتنب النواهي. طوبى لك فهي جزاء المتقين.
لا تعجَبَنْ لحسودٍ راحَ يُنكرها *** تجاهُلاً وَهْوَ عينُ الحاذِقِ الفَهِمِ
فلا تعجب بعد كل هذا من تجاهل حاسد لها وإنكاره إياها وهو يعلم ما تضمنته من حِكَم غَوالٍ وهدي بيّن فإن هذا من لوازم الحسد وهو لا يحط من قدرها لأنه لا يُحسد إلا من تمّت نعمته وبلغ العلى في كماله.
قد تُنكِرُ العَيْنُ ضوْءَ الشمسِ مِنْ رَمَدٍ *** ويُنكِرُ الفَمُ طَعْمَ الماءِ من سَقَم
نعم لا تعجب، فالعين قد تُنكر ضوء الشمس وهي طالعة لألم ألمّ بها لا تقوى معه على رؤية النور. والفم ينكر طعم الماء العذب الصافي لمرض حل به. ولا يحط من قدر الشمس والماء هذا الإنكار الذي ينكره الذوق والعيان. فلا غرابة في إنكار معجزة القرءان إذاً ممن ختم الله على قلبه وتسيطر الشيطان على حواسه.
في إسرائه ومعراجه صلى الله عليه وسلم
يا خير من يمَّمَ العافونَ ساحتَهُ *** سعياً وفوق مُتونِ الأينُقِ الرُّسُمِ
يا خير من قصد المحتاجون حرمه مشاة وركبانا طلبا لما عجزوا عن الوصول إليه من غيرك.
ومَنْ هوَ الآيَةُ الكُبرى لِمُعتَبِر
ويا من هو المعجزة العظيمة للمتعظ الذي يُحكّم العقل فيما جاء على يده من معجزات مشاهدات باهرات. ويا من هو النعمة العظيمة لمن يريد اغتنام القربات المنجيات.
سَرَيْت من حرمٍ ليلاً إلى حَرَمٍ *** كما سرى البَدْرُ في داجٍ مِنَ الظُّلَمِ
لقد سرت من الحرم المكي إلى بيت المقدس ثم عدت في بعض ليلة. كما سرى البدر في الليلة الظلماء من المشرق إلى المغرب.
وبِتَّ ترقى إلى أنْ نِلْتَ مَنْزِلَةً
وفي هذا الزمن اليسير عرجت إلى السموات العلا حتى صرت قاب قوسين أو أدنى كما أخبر الله تبارك وتعالى بذلك في القرءان الكريم، وقد قالت السيدة عائشة رضي الله عنها أنا أول من سأل النبي عليه الصلاة والسلام عن هذه الآية: {ثُمَّ دنا فتدلّى فكان قاب قوسين أو أدنى}. فقال لي: هو جبريل يا عائشة.
وَقَدَّمَت
وقدمتك جميع الأنبياء والرسل حيث صليت بهم إماما في المسجد الأقصى فكان تقديمك تقديم السيد وهو أكبر دليل على علو مقامك عن مقامات الأنبياء والمرسلين أجمعين.
وأنتَ تَخْترِقُ السَّبعَ الطِّباقَ بِهم *** في موكِبٍ كُنْتَ فيهِ صاحبَ العَلَمِ
حيث صعدت تخترق السموات السبع بهم في موكب عظيم كنت أنت فيه القائد الأعظم صاحب العلم الأكبر.
حتى إذا لم تدَعْ شأواً لِمُستبقٍ *** من الدنوِّ ولا مَرقىً لِمُستنِمِ
حتى إذا وصلت إلى مقام لا ينبغي لأحد سواك اعتلاؤه تأخر الجميع وتقدمت حتى دنوت مقام الشرف.
خفضتَ كلَّ مقامٍ بالإضافةِ إذ *** نوديتَ بالرفعِ مثل المُفردِ العَلَمِ
فكان كل مقام من مقامات الأنبياء والمرسلين والملائكة المقربين بالنسبة إلى مقامك أصغر وإذ سمعت صرير الأقلام. نوديت من قبل العلي القدير بيا محمد.
كيما تفوزَ بوصلٍ أيِّ مُستتِرٍ *** عن العيونِ وسِرٍ أيِّ مُكتتمِ
نوديت لتتمتع بحب الله المنزه عن الكيف. ولتُمنح من لدنه تعالى عظيمات الأسرار الإلهية.
فحُزتَ كلَّ فَخارٍ غير مُشترَكٍ *** وجُزتَ كل مقامٍ غَيْرِ مزدَحَمِ
فحزت بهذا التفضل الإلهي فخراً لا يشاركك فيه أحد وتعديت كل مقام حتى صرت فردا لا يزاحمك مزاحم.
وجل مقدارُ ما وُليتَ من رُتبٍ *** وعزَّ إدراك ما أُتيتَ من نِعَمِ
فما أعظم ما أولاك الله من المراتب العلية. وما أعز على غيرك إدراك بعض ما أولاك الله من نعم سنية.
بُشرى لنا معشر الإسلام إنّ لنا *** من العناية ركناً غير مُنهَدِمِ
فبشرى لنا بك يا أشرف الخلق فإن لنا بك من عناية الله ورحمته وغفرانه ركنا قوياً لا تزعزعه عواصف المعاصي. ولا تؤثر فيه زلازل الخطايا.
لمّا دعا اللهُ داعينا لِطاعته *** بأكرمِ الرُّسْلِ كُنّا أكرم الأُمَمِ
ولما دعا الله رسولنا الذي دعانا إلى التوحيد وهدانا من الظلمات إلى النور بأكرم الرسل. كنا نحن أكرم الأُمم. لأن التابع يشرف بشرف المتبوع. وإذا كان الرجل يفخر على أقرانه بتبعيته لدولة قوية من الدول الأجنبية فكيف لا يفخر من انتسب إلى الملة المحمدية التي هي حزب الله. وحزب الله هم المفلحون. فالحمد لله الذي جعلنا من هذه الأمّة التي هي خير أمّة أُخرِجَت للناس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر. حمداً يُكافىء هذه النعمة العظيمة والمنحة الجليلة.
في جهاد النّبي صلى الله عليه وسلم
راعَتْ قُلوبَ العِدا أنباءُ بِعْثَتهِ *** كنَبأَةٍ أجفَلَتْ غُفْلاً من الغَنَمِ
عندما أراد الله إيقاظ العرب بل العالم أجمع من سبات جهالة عمياء وشر مستطير حيث السلب والنهب وانتهاك الحرمات وأكل أموال الناس بالباطل الإكراه على البغاء. أظهر الذات المحمدية في مظهرها الحقيقي مظهر الرسول القوي الموفد من قبل ملك الملوك ليدعو إلى الله فدعا الناس إلى التوحيد فهالتهم دعوته التي ستنقلهم من عبادة الأوثان إلى عبادة الواحد الديّان المنزَّه عن مشابهة العيان الموجود أزلاً وأبداً بِلا كيفٍ ولا مكان. فذعروا لهذه الدعوة كما تذعر الغنم الرابضة حين تفاجئها زأرة أسد على غرة فتفترق حيرى لا تدري إلى أي جهة تتجه ولا على أي طريق تسير.
ما زال يلقاهُمُ في كلِّ مُعتَرَكٍ *** حتّى حَكَوا بِالقَنا لحماً على وَضَمِ
كبر عليهم دعوته إلى الله فناصبوه العداء وأبو إجابته وآذوه إيذاء شديدا وهو يقول اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون. فلما طال الأمد ملازمون للعناد أمره الله بقتالهم فحذرهم الحرب فلم يزدادوا إلا استهزاء فحمل عليهم بعدده القليل في معارك كثيرة فنصره الله على جيوشهم المتكاثفة حتى تخطفهم أسنة رماح أصحابه فاشتبهت قطع لحومهم المقطعة بأطراف الرماح قطع اللحم الموضوعة على خشبة الجزار.
وَدّوا الفَرار فكادوا يغبِطون به *** أشلاء شالَتْ مَعَ العِقْبانِ
فلما رأوا الغلبة عليهم في جميع المعارك ورأوا رءوسهم تتطاير ودوا الفرار حتى صاروا من شغفهم به يغبطون قطع اللحم التي ارتفعت مع العقبان والرخم من أجسام أنصارهم. ولكن أين المفر. والخوف قد سد عليهم كل طريق والجبن عمي عليهم كل مسلك والله من ورائهم محيط.
تمضي الليالي ولا يدرون عِدَّتَها *** ما لم تكُن من ليالي الأشهرِ الحُرُمِ
شغلهم الرسول بالحرب حتى كانت تمر الليالي لا يعرفون كم هي ولا في أي زمن هم اللهم إلا أيام الأشهر الحُرُم التي تضع الحرب فيها أوزارها. وهي رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم.
كأنما الدّينُ ضيفٌ حَلَّ ساحتَهُم *** بِكُلِّ قَرْم إلى لحمِ العِدا قَرِمِ
كأنما دين الإسلام حين نزل بهم ضيف. أتباعه أبطال أصحاء مشتهون أكل لحوم أعدائهم.
يَجُرُّ بَحْرَ خميسٍ فوقَ سابِحةٍ *** يرمي بموجٍ من الأبطالِ مُلْتَطَمِ
يجر وراءه جيشاً عرمرماً يحكي لكثرة عدده بحراً متلاطم الأمواج يخشى منظره ويخاف مخبره.
من كل منتدب لله مُحتسِب *** يسطو بمستأصلٍ للكفر مُصْطَلَمِ
فيه كل مجاهد في سبيل الله محتسب أجره من الله لا يرجو سوى تأييد كلمة الله يصول على الكفار بسيف يقتلع الكفر من جذوره. لا يفل له حد ولا ترد له ضربة.
حتى غدت مِلةُ الإسلام وهي بهمْ *** من بعد غربتها موصولة الرحم
فلم يزل هؤلاء الصناديد يدعون إلى الله ويقاتلون من يأبى إجابة الدعوة حتى صارت ملة الإسلام بهمتهم وقوة إيمانهم وإقدامهم على الموت صاحبة الحول والطول إن شرقت أو غربت وجدت لها أقارب وأنصاراً. بعد أن كانت غريبة في وطنها لا ناصر لها. فسبحان من بيده ملكوت كل شيء. وهو على كل شيء قدير.
مكفولة أبداً منهم بخير أبٍ *** وخير بعلٍ فلَمْ تيْتَمْ ولم تَئِم
وليس في ذلك غرابة وقد كفلها منهم من هو منها بمنزلة الأب كالرسول صلى الله عليه وسلم ومن هو منها بمنزلة البعل كالمهاجرين
هم الجبال فسَلْ عنهم مُصادمَهُم
وأن أنصارها كالجبال قوة وثباتاً وإذا شئت أن تعرفهم حق معرفتهم لتلم الإلمام التام بمن باعوا أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة وكان على يدهم النصر والفتح. فاستفهم عنهم ممن اشتبك معهم في معامع الوقائع يخبرك أنهم الجبال الرواسي الذين ثبتوا عند اللقاء فلم تزعجهم الكثرة. ولا أخافتهم العدة. ولا زحزحهم عن مواقفهم تتابع الطعنات.
وسَلْ حنيناً وسَلَْ بدرا وسَل أُحُداً *** فصول حتفٍ لهُمْ أدهى من الوَخَمِ
واستفسر عن المواضع التي دارت رحى الحرب فيها بينهم وبين أعدائهم كحنين وبدر وأُحُد فقد رأوا فيها أنواعا من الموت أشد عليهم من الوباء الداهم إذ تركهم المسلمون حصيدا بعد أن أذاقوهم عذابا أليما.
المُصدري البيض حُمراً بعدما وردتْ *** من العِدا كلَّ مُسوَدٍّ من اللّمَمِ
فهم قوم لا تخفى على أحد صفاتهم لأنهم ما رجعوا بسيوفهم قط غير مخضبة بالدماء. بعد أن وردت مورداً شهياً من رءوس الأعداء.
والكاتبين بِسُمْرِ الخَطِّ ما تَرَكَتْ *** أقلامُهمْ حَرفَ جِسمٍ غيرَ مُنْعَجِمِ
وقد جرحوا برماحهم من أجسام الكفار ما لم يجرح من قبل بقواطع السيوف لمنعة صاحبه وقوته فكتبوا بما أحدثوا بها من جراح رايات النصر التي لم يتمكنوا من كتابتها في الصحف بالأقلام لأميتهم أو لمشغوليتهم
شاكي السلاحِ لهمْ سيما تُمَيِّزُه
ولأُقرب عليك الأمر بوصف أخص. فهم قوم على الدوام لابسون سلاحهم لأنهم إما في الحرب أو مستعدون لحرب فهم لا يخشون الموت. وعلامتهم التي تميزهم من الناس. هي هيبة البطولة ونور اليقين وصاحبة التقوى. فهم كالورد بالنسبة للناس والناس بالنسبة لهم كالسلم. والورد والسلم نوعان من الشجر لا يشتبهان.
تُهدي إليك رياحُ النصرِ نَشْرَهُمُ
تهدي إليك على الدوام رائحتهم الزكية أنباء النصر. ولهذا تخال الزهور في أكمامها أبطالاً لاشتمالها على رائحة زكية تشبه رائحة تحيات نصرهم المتواترة.
كأنهم في ظهور الخيل نبتُ رُباً *** من شدّة الحَزْمِ لا من شدّة الحُزُمِ
فهم فوق ظهور الخيل ثابتون. لا تزعزعهم هجمات الأعداء ولا كثرة الصيحات كنبت الأرض العالية الذي لا تؤثر فيه الرياح الهوجاء. ولا السيول العمياء. وذلك من شدة الثبات ورباطة الجأش لا من قوة شد الحبال كما يفعل الجبان الخوار.
طارت قلوب العِدا من بأسهم فَرَقاً *** فما تُفَرقُ بينَ البَهْمِ والبُهُمِ
جن الأعداء من شدتهم وانتصارهم عليهم مع قلتهم فأعماهم الفزع والرعب. فهم لا يفرقون عند اللقاء بين الرجال والدواب وكيف لا يخذل من يخبط خبط عشواء . ومن يُضْلِل الله فما له هاد.
ومَنْ تَكُنْ برسول اللهِ نُصرَتُهُ *** إن تَلْقَهُ الأُسدُ في آجامها تَجِمِ
وكيف لا يكون الثبات والإقدام من شيم هؤلاء الأبطال. ولا يكون النصر حليفهم. والجبن والخذلان من مستلزمات أعدائهم؟ وناصرهم رسول الله ومن تكون برسول الله نصرته إذا داهم الأسد في مأواه حيث تكون أشد دفاعاً فرت منه هرباً وما وجدت إلى الثبات سبيلا.
ولن ترى من وليٍّ غير منتصرٍ *** بهِ ولا من عدوٍّ غيْرِ مُنْقَصِمِ
وكيف لا ينصرون ويهْزِمونَ
أحلَّ أُمَّته في حرز ملَّتِهِ *** كالليث حلَّ مع الأشبالِ في أجَمِ
هذا الرسول الذي أحل أُمته في حصن الدين المنيع فهم آمنون به من الشيطان وجنوده والكفر ونصرائه. كما يتحصن الليث وأشباله في مأواه من كل طارىء ولن يجرؤ على الدنو من الأسد في عرينه احد.
كم جَدَّلَتْ كلمات الله مِنْ جَدِلٍ *** فيه وكم خصَمَ البرهانُ من خَصِمِ
وماذا أعدد من معجزات لا تحصى وكم أرغمت كلمات الله وآياته فيه أنف كل مفوه كثير الجدل. وكم قهر البرهان خصماً لدوداً من أشد معارضيه.
كفاك بالعِلْمِ في الأُمّيِّ معجزةً *** في الجاهليةِ والتّأديبِ
كل ما كان من معجزاتك يا رسول الله لو لم يكن لكفاك دليلاً على صدق رسالتك علمك مع أُميتك وتأديبك في يتمك. ألست أنت الذي جئتنا من عند الله بالقرآن الذي أعجز البلغاء وأفحم الخطباء. فعجزوا عن مجاراته والوصول إلى محاكاته في أصغر سورة منه. اللهم بلى.
في التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم
خَدَمتُهُ بِمَديحٍ أستقيلُ بِهِ *** ذنوبَ عُمْرٍ مَضَي في الشِّعْرِ والخِدَمِ
خدمته؟ لا، بل خدمت نفسي بمدحه صلى الله عليه وسلم رجاء أن يقيلني الله من ذنوب كثيرة جنيتها طول عمر قضيته في الشعر بمدح من لا يستحق المدح وذم من لو تركت ذمه لكان أولى وأحق. وفي خدمة من لا ينفع وقد يضر. وكل عمل لغير الله باطل.
إذ قَلَّداني ما تُخشى عواقِبُهُ *** كأني بِهِمَا هَدْيٌ من النَّعَمِ
إذ قلدني الشعر والخدمة بقلادة من الأوزار تخشى عاقبتها فكنت كهدي النعم الذي يساق إلى الذبح فداء لدى البيت الحرام.
أطعت غَيَّ الصِّبا في الحالتين وما *** حصلتُ إلاّ على الآثامِ والنَّدَمِ
أطعت هوى شبابي فقلت الشعر مادحا وذاما وخدمت هذا وذاك رجاء منفعة دنيوية. فما جنيت واأسفاه سوى الذنوب التي عليها الآن أندم. فما كان أغاني عما يوجب تأنيب الضمير والخشية ممن يحاسب على النقير والقطمير.
فيا خسارة نفسٍ في تجارتها *** لم تَشْترِ الدّينَ بالدنيا ولَمْ تَسُمِ
فيا خسارة نفس في هذه التجارة التي لم تشتر فيها الدين بالدنيا بل عكست. ولم تطلب زيادة الثمن إذ ضحت هذه التضحية العظيمة. فباعت دينها بدنياها. ولو فعلت هذا لكان لها في كثرة الثمن شبه عذر في إقدامها على هذه الصفقة الخاسرة.
ومن يَبِعْ آجِلاً منه بعاجلِهِ *** يَبِنْ لهُ الغِبْنُ في بيعٍ وفي سَلَمِ
ومن باع الدار الباقية التي لا فناء لها بدار فانية زائلة ظهر له بعد تمام البيع الخسارة في البيع والتسليم.
إنْ آتِ ذنباً فما عهدي بمُنْتقِضٍ
وأنا وإن ارتكبت الذنوب وشملتني العيوب فما نقضت والحمد لله لرسول الله عهداً. ولا قطعت بيني وبينه صلة وإن لكل جواد كبوة وكبوتي هذه إن شاء الله بسببه مغفورة.
فإنَّ لي ذِمَّةً منهُ بِتسمِيَتي
فإن بيني وبينه عهداً وثيقاً وهو تسميتي باسمه الشريف. فلا خوف إن شاء الله عَلَيَّ من ذنوب أثقلت كاهلي وأحبطت عملي فإنني ناجٍ بسبب هذا العهد فالرسول الأعظم أوفى الخلق بالعهود فلا يترك من لجأ إلى ساحة كرمه.
إن لم يكن في معادي آخذاً بيدي *** فضلاً وإلاّ فَقُلْ يا زلَّةَ القَدَمِ
إن لم يأخذ بيدي رسولُ الله يوم يقول الكافر (يا ليتني كنت ترابا) فيا زلة القدم ويا سوء المآل لأن الاعتماد على الطاعة في طلب النجاة من سوء التدبير وقلة الإدراك.
حاشاهُ أن يُحرمَ الرّاجي مكارمَهُ *** أو يَرجِعَ الجارُ مِنْهُ غيرَ مُحتَرَمِ
ومنذُ ألزَمْتُ أفكاري مدائِحهُ *** وجدتُهُ لخلاصي خيرَ مُلتَزمِ
وحاش لله أن يستجير به مستجير أو يرجوه راج فلا يأمن المستجير ولا ينال الراجي مبتغاه فبشراك يا نفسي. لأنه لو لم يقبل رجائي ويُجيرني من عذاب شديد لعلي كنت لم أقف لمدحه بهذا الخصوص، فإن توفيقي لمدحه صلى الله عليه وسلم وتفريج كل كرب بالتجائي إليه دليلان واضحان دلاّني على أنَّ خاتم الأنبياء قد التزم خلاصي وتعهد بنجاتي إن شاء الله رب العالمين.
ولَنْ يفوتَ الغِنى مِنْهُ يداً تَرِبَتْ *** إنَّ الحيا يُنْبِتُ الأزهار في الأكمِ
ولا يفوت حنانه وعطفه نفس تعلقت به لأنه صلى الله عليه وسلم أعظم من المطر نفعاً، والمطر يروي الأرض المقفرة التي لا ينتفع بها كثيرا فينبت فيها الزهر وهي غير أهل له لخلوها ممن ينتفع به.
ولمْ أُرِد زهرةَ الدنيا التي اقتطَفَتْ *** يدا زُهَيرٍ بما أثْنى على هَرِمِ
وأنا مع إكثاري من مدحه صلى الله عليه وسلم لم أرد بهذا المدح منفعة دنيوية تنقضي بانقضاء الأجل التي أرادها زهير من هرم بن سنان. وإنما أردت رضاء الله ورضاه والدار الآخرة التي طرحتها وراء ظهري عمراً مديداً وزمناً طويلاً.
في المناجاة وعرض الحاجات
يا أكرمَ الخَلْقِ مالي من ألوذُ بهِ
فيا أكرم الخلق ها أنا مقر بذنبي معترف بخطئي نادم على تفريطي. وقد يكون وليس لي باب إلى النجاة سوى باب كرمك فخذ بيدي يا رسول الله عند عرضي على من لا تخفى عليه خافية.
وَلَنْ يضيقَ رسول الله جاهُكَ بي إذا الكريمُ تجلَّى باسم مُنْتَقِمِ
فلن يضيق واسع جاهك بي يا رسول الله إذا تجلى ملك الملوك يوم القيامة على عباده باسم المنتقم.
فإنّ من جودك الدنيا وضرّتَها
وكيف يضيق جاهك بي، ومن جودك الدنيا والآخرة بما حوتا، ومما علمك الله بعض ما جرى به القلم على اللوح وها أنا أُعلمك بحالتي وحاجتي وأنتم يا سيدي يا رسول الله تأخذون بيد من لجأ إليكم.
يا نفس لا تَقْنَطي من زَلَّةٍ عَظُمَتْ
هنا أحسَّ البوصيري رضي الله عنه بالعطف النبوي، والقبول الإلهي. فقال منشرحاً مسروراً يهتز من الفرح: يا نفس لا تقنطي من النجاة لخطاياي العظيمة ما دام الملجأ رسول الله. فإن الله يغفر الذنوب جميعاً. لا فرق عند غفرانه سبحان بين الكبائر والصغائر. وقد أحسنت به الظن وهو سبحانه عند ظن عبده به فبشرى لك يا نفس.
لعل رحمةَ ربِّي حينَ يَقْسِمُها
ورجائي أن الله حين يقسم رحمته بين خلقه يجعل القسمة على قدر المعاصي لا على عدد الأنفس. لأن نصيبي سيكون عظيماً أنجو به إن شاء الله من عذاب أليم لما أعلمه من خطاياي العظيمة التي لا أستطيع أن أعدّها أو أحصيها.
يا ربِّ واجعلْ رجائي غيرَ مُنْعَكِسٍ
فاللهم اجعل هذا الرجاء غير منعكس واجعل حسابي الذي حسبته من قسمة الرحمة على قدر المعاصي غير خاطىء.
والطُفْ بعبدكَ في الدارينِ إنَّ لهُ *** صبراً متى تَدْعُهُ الأهوالُ يَنْهَزِمِ
والطف اللهم بي في الدارين لأن صبري ضعيف ينهزم متى دهمتني الأهوال فخذ يا رب بيدي إكراماً لمن لجأتُ إلى بابه واحتميت بحمى جنابه.
وأذنْ لِسُحْبِ صلاةٍ منكَ دائمةً *** على النَّبي بِمُنْهَلٍ
كما أسألك أن تصب من فيض فضلك رحمات دائمات كالغيث المتتابع الذي لا ينقطع على نبيك وخيرتك من خلقك.
ما رنَّحَتْ عذباتِ البانِ ريحُ صباً *** وأطربَ العيس حادي العيسِ بالنَّغَمِ
واجعلها مستمرة ما هزَّت الريح أطراف الأغصان. واطرب النوق حادي النوق بالألحان.
وآخره أن الحمد لله ربّ العالمين
وصلّى الله على سيّدنا محمّد وعلى اله وصحبه الطيبين الطاهرين